جاء في الجزء الثاني من كتاب مقدمة ابن خلدون : " لقد يقع في الدول اضطراب في المراتب من أهل هذا الخلق ( يقصد به الأنفة والاعتزاز بالنفس ) ، ويرتفع فيها كثير من السفلة وينزل كثير من العلية بسبب ذلك ، وذلك أن الدول إذا بلغت نهايتها من التغلب والاستيلاء انفرد منها منبت الملك بملكهم و سلطانهم ، ويئس من سواهم من ذلك ، وإنما صاروا في مراتب دون مرتبة الملك وتحت يد السلطان و كأنهم خولٌ له ( أي أعوان وخدم ) .
فإذا استمرت الدولة وشمخ الملك تساوى حينئذ في المنزلة عند السلطان كل من انتمى إلى خدمته وتقرب إليه بنصيحته واصطنعه السلطان لغنائه في كثير من مهماته ، فتجد كثيرا من السوقة يسعى في التقرب من السلطان بجده و نصحه ، ويتزلف إليه بوجوه خدمته و يستعين على ذلك بعظيم من الخضوع والتملق له ولحاشيته وأهل نسبه ، حتى ترسخ قدمه معهم ، وينظمه السلطان في جملته ، فيحصل له بذلك حظ عظيم من السعادة ، وينتظم في عدد أهل الدولة .
وناشئة الدولة حينئذ من أبناء قومها الذين ذللوا صعابها ، ومهدوا أكنافها مغترين بما كان لآبائهم في ذلك من الآثار ، وتشمخ به نفوسهم على السلطان ويعتدون بآثاره ، ويجرون في مضمار الدالّة بسببه ، فيمقتهم السلطان لذلك و يباعدهم ، ويميل إلى هؤلاء المصطنعين الذين لا يعتدون بقديم ولا يذهبون إلى دالة ولا ترفع ، إنما دأبهم الخضوع له والتملّق والاعتمال في غرضه متى ذهب إليه ، فيتسع جاههم وتعلو منازلهم ، وتنصرف إليهم الوجوه والخواص بما يحصل لهم من ميل السلطان والمكانة عنده .
ويبقى ناشئة الدولة فيما هم فيه من الترفع والاعتداد بالقديم لا يزيدهم ذلك إلا بعدا من السلطان ومقتا ، وإيثارا لهؤلاء المصطنعين عليهم إلى أن تنقرض الدولة ، وهذا أمر طبيعي في الدول ، ومنه جاء شأن المصطنعين في الغالب و الله سبحانه وتعالى أعلم و به التوفيق لا رب سواه " هكذا قال ابن خلدون ، ولربما أعاد التاريخ نفسه .
من الحكم الفرنسية : اعلم أن كل متملق يعيش على حساب من يصغي إليه .
وقال الشاعر علي بن مقرب :
لا تركنن إلى من لا وفاء له *** الذئب من طبعه إن يقتدر يثب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق